فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم الرابع: ما هي شروط وجوب الحج؟

شروط وجوب الحج خمسة، وهي:
1- الإسلام 2- العقل 3- البلوغ، 4- الاستطاعة، 5- وجود محرم مع المرأة.
وزاد بعضهم أمن الطريق وهو من شروط الأداء لا من شروط هي شروط لجميع التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام.. إلخ، وأما الشرط الرابع وهو (الاستطاعة) فقد بينته الآية الكريمة بقوله تعالى: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} كما بينت السنة النبوية الاستطاعة بأنها ملك (الزاد والراحلة) فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ملك زادًا وراحلة تبلغه بيت الله ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا» وذلك أن الله يقول في كتابه: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله عز وجل: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} فقال: السبيلُ: الزادُ والراحلة.
قال الجصاص: وليست الاستطاعة مقصورة على وجود الزاد والراحلة لأن المريض الخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزَّمِنُ وكل من تعذّر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجدًا للزاد والراحلة، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله: الاستطاعة (الزادُ والراحلة) أن ذلك جميع شرائط الاستطاعة، وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن أمكنه المشي ولم يجد زادًا وراحلة فعليه الحج، فبيّن صلى الله عليه وسلم أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي.
أما الشرط الخامس وهو (وجود المحرم للمرأة) فقد استوفينا شرحه فيما سبق والله أعلم.

.الحكم الخامس: هل يجب الحج أكثر من مرة؟

ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر وهو رأي الجمهور إذ ليس في الآية ما يوجب التكرار وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا». فقال رجل: كلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» ثم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلك بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
البيت حَجَرةٌ والعبد مَدَرَةٌ، فَرَبَطَ المدرة بالحجرة، فالمدر مع الحجر. وتعزَّز وتَقَدَّس من لم يزل.
ويقال البيت مطاف النفوس، والحق سبحانه مقصود القلوب!
البيت أطلال وآثار وإنما هي رسوم وأحجار ولكن:
تلك آثارنا تدلُّ علينا ** فانظروا بعدنا إلى الآثار

ويقال البيت حجر، ولكن ليس كل حجر كالذي يجانسه من الحجر.
حَجَرٌ ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج، لا بل لقلوب قومٍ مِثْلِجٌ مبهج، ولقلوب الآخرين منفج مزعج.
وهم على أصناف: بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم.
بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسرٍ خراب، ومن لاحظه بعين الإضافة حظي بكل تقريب وإيجاب، كما قيل:
إن الديار- وإن صَمَتَتْ- فإنَّ لها ** عهدًا بأحبابنا إذ عندها نزلوا

بيت من زاره بنفسه وجد ألطافه، ومن شهده بقلبه نال كشوفاته.
ويقال قال سبحانه: {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} [الحج: 26] وأضافه إلى نفسه، وقال ها هنا: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وفي هذا طرف من الإشارة إلى عين الجمع.
وسميت (بكة) لازدحام الناس، فالكلُّ يتناجزون على البدار إليه، ويزدحمون في الطواف حواليْه، ويبذلون المهج في الطريق ليصلوا إليه.
والبيت لم يخاطِب أحدًا منذ بنِيَ بُمْنَيةٍ، ولم يستقبل أحدًا بحظوة، ولا راسل أحدًا بسطر في رسالة، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر- هذا وصفه في التعزز فما ظنُّك بِمَن البيتُ له. قال صلى الله عليه وسلم مخبرًا عنه سبحانه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري».
ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى ربِّ البيت بالهوينى دون تحمُّل المشقات ومفارقة الراحات؟!
ويقال لا تُعِلِّق قلبك بأول بيتٍ وضع لَكَ ولكن أَفْرِدْ سِرَّكَ لأول حبيبٍ آثرك.
ويقال شتَّان بين عبدٍ اعتكف عند أول بيتٍ وُضِع له وبين عبدٍ لازم حضرة أول عزيز كان له.
ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بِقَدَمِهم، فالأغنياء يزورون البيت، ويطوفون بِقَدَمِهم، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم.
ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه في الحجر، والقلب بيت الحق سبحانه في السِّر، قال قائلهم:
لستُ من جملة المحبين إنْ لم ** أجعل القلبَ بيته والمقاما

وطوافي إجالة السِّر فيه ** وهو ركني إذا أردت استلاما

فاللطائف تطوف بقلوب العارفين، والحقائق تعتكف في قلوب الموحِّدين، والكعبة مقصود العبد بالحج، والقلب مقصود الحق بإفراده إياه بالتوحيد والوجد.
قوله جلّ ذكره: {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}.
بركاته اتصال الألطاف والكشوفات، فَمَنْ قصده بهمته، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رُشْدِه.
قوله جلّ ذكره: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}.
ولكن لا تُدْرَكُ تلك الآيات بأبصار الرؤوس ولكن ببصائر القلوب.
قوله جلّ ذكره: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
شرط الغَنيِّ ألا يَدَّخِر عن البيت شيئًا مِنْ مالِه، وشرط الفقير ألا يدخر عن الوصول إلى بيته نَفَسًا من روحه.
ويقال الاستطاعة فنون؛ فمستطيع بنفسه ومَالِه وهو الصحيح السليم، ومستطيع بغيره وهو الزَّمِنُ المعصوب، وثالث غفل الكثيرون عنه وهو مستطيع بربه وهذا نعت كل مخلص مستحق فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا.
ويقال حج البيتِ فَرْضٌ على أصحاب الأموال، وربِّ البيتِ فَرْضٌ على الفقراء فرض حتم؛ فقد يَنْسَدُّ الطريق إلى البيت ولكن لا ينسدُّ الطريق إلى رب البيت، ولا يُمْنَعُ الفقير عن ربِّ البيت.
ويقال الحج هو القصد إلى مَنْ تُعَظِّمه: فقاصدٌ بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فَرضِهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند شهود ربهم، فأمَّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمَّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام.
قوله جلّ ذكره: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ}.
ضرب رقم الكفر على من ترك حج البيت، ووقعت بسبب هذا القول قلوب العلماء في كدِّ التأويل، ثم قال: {فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ} وهذا زيادة تهديد تدل عَلى زيادة تخصيص.
ويقال إن سبيل من حج البيت أن يقوم بآداب الحج، فإذا عقد بقلبه الإحرام يجب أن يفسخ كلَّ عَقْدٍ يصدُّه عن هذا الطريق، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق، وإذا طَهَّرَ تَطَهَّرَ عن كل دَنَسٍ من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الحياء ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء، فإذا تجرَّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوسٍ له من الأخلاق الذميمة، وإذا لبَّى بلسانه وجب ألا تبقى شَعْرَةٌ مِنْ بَدَنِهِ إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسِرِّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام، ولا تعرض لتخصيص؛ فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه، وعرف له تعالى حقَّه على نفسه، ويتعرَّف إلى الله تعالى بِتَبَرِّيه عن مُنَّتِه وحَوْلِه، والحقُّ سبحانه يتعرَّف إليه بِمِنَّته وطَوْله، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه، ولا يصحُّ ذكرُه لربِّه مع ذكره لنفسه، فإذا بلغ مَنيّ نفى عن قلبه كل طَلَبٍ ومُنَى، وكلَّ شهوةٍ وهوى.
وإذا رمى الجمار رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة في الدنيا والعقبى.
وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية، وتَقَرَّب به إلى الحق سبحانه، فإذا دخل الحَرَمَ عَزَمَ على التباعد عن كل مُحرَّم على لسان الشريعة وإشارة الحقيقة.
وإذا وقع طَرْفُه على البيت شهد بقلبه ربَّ البيت، فإذا طاف بالبيت أخذ سِرُّه بالجولان في الملكوت.
فإذا سعى بين الصفا والمروة صفَّى عنه كل كدورة بشرية وكل آفة إنسانية.
فإذا حَلَقَ قطع كلَّ علاقة بقيت له.
وإذا تحلل من إحرام نفسه وقصده إلى بيت ربِّه استأنف إحرامًا جديدًا بقلبه، فكما خرج من بيت نفسه إلى بيت ربه يخرج من بيت ربه إلى ربه تعالى.
فمن أكمل نُسْكَه فإنما عمل لنفسه، ومن تكاسل فإنَّ الله غني عن العالمين وقال صلى الله عليه وسلم: «الحاج أشعث أغبر»، فمن لم يتحقق بكمال الخضوع والذوبان عن كليته فليس بأشعث ولا أغبر. اهـ. بتصرف يسير.

.من فوائد ولطائف ابن القيم:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} حج البيت مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله على الناس لأنه وجوب والوجوب يقتضي على ويجوز أن يكون في قوله ولله لأنه يتضمن الوجوب والاستحقاق ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير وكان الأحق أن يكون ولله ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله: حج البيت على الناس أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال حج البيت لله تعالى أي حق واجب لله فتأمله وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان إحداهما: أنه اسم للموجب للحج فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع أحدها: الموجب لهذا الفرض فبديء بذكره والثاني: مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس والثالث: النسبة والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء وهو الحج والفائدة الثانية: أن الاسم المجرور من حيث كان لله تعالى اسما سبحانه وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه وتخويفا من تضييعه إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما أوجبه غيره وأما قوله: من فهي بدل وقد استهوى طائفة من الناس بأنها فاعل المصدر كأنه قال: أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا وهذا القول يضعف من وجوه منها:
أن الحج فرض عين ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم لأن المعنى يؤول إلى ولله على الناس أن يحج البيت مستطيعهم فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين وليس الأمر كذلك بل الحج فرض عين على كل أحد حج المستطيعون أو قعدوا ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه فإذا حج أسقط الفرض عن نفسه وليس حج المستطيعين بمسقط للفرض عن العاجزين وإن أردت زيادة أيضاح فإذا قلت: واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعة للجهاد فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب عن غيرهم وإذا قلت: واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال ولله حج البيت على المستطيعين هذه النكتة البديعة فتأملها الوجه الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه وكان يقال ولله على الناس حج البيت من استطاع وحمله على باب يعجبني ضرب زيدا عمرو مما يفصل به بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكثور المرجوح وهي قراءة ابن عامر قتل أولادهم بفتح الدال شركائهم فلا يصار إليه وإذا ثبت أن من بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى الناس كأنه قيل: من استطاع منهم وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن وحسنه هاهنا أمور منها أن من واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه فارتبطت به ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ومثال ذلك إذا قلت: رأيت أخواتك من ذهب إلى السوق تريد من ذهب منهم لكان قبيحا لأن الذاهب إلى السوق أعم من الأخوة وكذلك لو قلت البس الثياب ما حسن وجمل تريد منها ولم تذكر الضمير لكان أبعد في الجواز لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب وباب بدل البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ومما حسن حذف الضمير في هذه الآية أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول وأما المجرور من قوله إليه فيحتمل وجهين أحدهما: أن يكون في موضع حال من سبيل كأنه نعت نكرة قدم عليها لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل والثاني أن يكون متعلقا بسبيل فإن قيل: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل قيل: السبيل كان هاهنا عبارة عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما كان فيه رائحة الفعل ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق فصلح تعلق المجرور به واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير لأنه ضمير يعود على البيت والبيت هو المقصود به الاعتناء وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعنى هذا تعبير السهيلي وهو بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ولا يليق بالآية سواه وهو الوجوب المفهوم من قوله على الناس أي يجب على الناس الحج فهو حق واجب وأما تعليقه بالسبيل أو جعله حالا منها ففي غاية البعد فتأمله ولا يكاد يخطر بالبال من الآية وهذا كما يقول لله عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر أو بلفظ الإيجاب والكتاب والتحريم نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} نظم الآية وتأكد الوجوب وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه أحدها: أن قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على ثم أبدل منه أهل الاستطاعة ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوت أو مال فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: ومن كفر أي بعدم التزام هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه والله تعالى هو الغني الحميد ولا حاجة به إلى حج أحد وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو من أعظم التهديد وأبلغه ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عموما ولم يقل فإن الله غني عنه لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه ثم أكد هذا المعنى بأداة إن الدالة على التوكيد فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكيد هذا الغرض العظيم وتأمل سر البدل في الآية المقتضى لذكر الإسناد مرتين مرة بإسناده إلى عموم الناس ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرار الإسناد ولهذا كان فيه نية تكرار العامل وإعادته ثم تأمل ما في الآية من الأيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحلتين اعتناء به وتأكيدا لشأنه ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فوصفه بخمس صفات أحدها: أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض الثاني: أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق الثالث: أنه هدى وصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى الرابع: ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية الخامس: الأمن لداخله وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات وهذا يدلك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم والتنويه بذكره والتعظيم لشأنه والرفعة من قدره ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسهم حبا له وشوقا إلى رؤيته فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا كلما ازدادوا له زيادة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسلبهم كما قيل:
أطوف به والنفس بعد مشوقة ** إليه وهل بعد الطواف تداني

وألثم منه الركن أطلب برد ما ** بقلبي من شوق ومن هيمان

فو الله ما أزداد إلا صبابة ** ولا القلب إلا كثرة الخفقان

فيا جنة المأوى ويا غاية المنى ** ويا منيتي من دون كل أمان

أبت غلبات الشوق إلا تقربا ** إليك فما لي بالبعاد يدان

وما كان صدى عنك صد ملالة ** ولي شاهد من مقلني ولساني

دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا ** فلبى البكا والصبر عنك عصاني

وقد زعموا أن المحب إذا نأى ** سيبلى هواه بعد طول زمان

ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا ** دواء الهوى في الناس كل أوان

بل أنه يبلى التصبر والهوى ** على حاله لم يبله الملوان

وهذا محب قاده الشوق والهوى ** بغير زمام قائد وعنان

أتاك على بعد المزار ولو ونت ** مطيته جاءت به القدمان